كتب مايز عبيد في صحيفة “نداء الوطن”:
إذا كانت حالات الكورونا التي ظهرت في طرابلس لا تزال ضمن الحدود المعقولة جداً، لكن حالات الفقر هي التي أصبحت لا تُعدّ ولا تُحصى، لا بجهاز الـ PCR ولا بأي جهاز متطوّر آخر. ففي الوقت الذي يُقاسي فيه أبناء طرابلس الأمرّين مع الحَجر المنزلي والتعبئة العامة المفروضة في البلاد منذ أسابيع، خصوصاً وأن الأكثرية في المدينة تعيش من عملٍ يومي، والكلّ تعطّلت مصالحهم، فإن إعتراض الطرابلسيين على خطة التعبئة العامة يأتي من كونها فُرضت على الناس من دون ان تؤمّن الحكومة البديل، الأمر الذي دفع بالعشرات للنزول إلى الشارع أكثر من مرة في زمن التعبئة، وخصوصاً في الأحياء الشعبية والأسواق الداخلية وفي الميناء، سرعان ما كان الجيش اللبناني يحضر لتفريقهم بحجة كورونا.
في طرابلس، تبدو ثورة الجياع ناراً تحت الرماد، فنزول العشرات إلى الشوارع اليوم، لا بدّ من أن يتحوّل إلى آلاف، عندما يصل الطرابلسي إلى وقت لا يعود يقيم فيه أي وزن، لا لكورونا ولا لغيرها.
على أن التطور الأبرز في المدينة يحصل منذ أسبوع تقريباً، تشهد فيه عودة الزخم الشعبي الثوري إلى ساحة النور، التي وعلى الرغم من إعادة فتح الطريق فيها، وإزالة الخيم وكل مظاهر الإحتجاج، إلا أنها باتت تشهد يومياً تظاهرات وتجمّعات، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية والإقتصادية الصعبة التي تمر بها طرابلس وأهلها. يترافق ذلك مع ارتفاع سعر الدولار الذي تخطّى عتبة الـ 3300 ليرة ومع الإرتفاع الجنوني في أسعار السلع والمواد الغذائية والخضار، إذ لم يعد مُستغرباً أن تجد طرابلسي يخرج إلى الشارع وينادي: “ما معي حق ربطة خبز”، أو مواطن آخر يبحث بين القمامة ليجد ما يسدّ به رمقه. فلقاء المعرض لنواب طرابلس وفاعلياتها لم يقدّم أي جديد، ولم يلامس الواقع الطرابلسي المعروف والصعب بحلول، سوى التمنيات، فتعرّض هو وأصحابه لانتقادات واسعة، تماماً كما جملة الرئيس نجيب ميقاتي “لن يجوع أحد في طرابلس”، بينما أعداد الجائعين والمشرّدين على قارعة الطريق في الفيحاء تزداد كل يوم.
ظهور وباء كورونا في لبنان قد يكون أعطى الحكومة فرصة لالتقاط الأنفاس وسحب كل أشكال الاعتراض الشعبي على أدائها من الشارع، إلا أن تعاملها بخفّة ولامبالاة وعدم مسؤولية، أعاد الناس من جديد إلى الشارع، للثورة على سلطة تُمعن في إفقارهم وتجويعهم، وتسكت على جنون الأسعار، قائلة لهم “لا تأكلوا… وانحجروا وما في بديل”.
ثورة الجياع
وخلال متابعة لإحدى التظاهرات التي نُظمت في ساحة النور امس الأول، لفت فيها الكلام العالي النبرة للمشاركين الذين حملوا شعاراً جديداً لتحرّكهم هذه المرة، تحت عنوان “ثورة الجياع”. ففقراء المدينة صاروا ينزلون كل يوم إلى ساحة النور (ساحة الثورة) غير آبهين لا بمرض ولا بتعبئة عامة أو خاصة. فالموت بكورونا، بحسب هؤلاء، أرحم من الموت جوعاً. الشعارات لا تُطعم جائعاً ولا تملأ معدة فارغة. أهل طرابلس ملّوا الوعود الزائفة ولم تعد هناك حلول بالنسبة إليهم إلا ثورة الجياع التي تنزل فيها كل طبقات المجتمع إلى الساحات، للقضاء على الفساد والإستبداد. وخلال متابعة التظاهرات أيضاً، يلفت فيها حمل المتظاهرين أرغفة الخبز، للإيحاء بما وصلت إليه أوضاع الناس المعيشية. هم يرددون هتافات: “بدنا خبز بدنا طحين.. بدنا ناكل جوعانين”، على أن الهتافات السياسية التي تعوّدنا عليها في انتفاضة 17 تشرين ما زالت موجودة، واصفين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجبران باسيل بـ”الحرامية”. ولا تخلو هذه التظاهرات من بعض المناوشات مع الجيش الذي يحضر عند كل تجمّع محاولاً فضّ التجمّعات التي تحصل في زمن تفشّي وباء “كورونا”.في المقابل، مساعدات الدولة قد طال انتظارها، ومساعدات السياسيين توزّع على المحسوبين عليهم، كما يقول أبو نزار اسماعيل، من سكان ساحة النجمة، لـ “نداء الوطن”: “جيراني في البناية أغنياء وموظفون، وقد وصلت إليهم مساعدات من أحد النواب في المدينة، وأنا فقير عامل بسطة ممنوع عليّ أن أعمل، ولم أحصل على أي مساعدة سوى على قسيمة 75 ألف ليرة – البلدية – التي لا تكفي مؤونة لخمسة أيام”.
يقول العارفون بأوضاع المدينة التي تغلي على صفيحٍ ساخنٍ من الفقر والجوع في كل مكان، إن ما جرى ويجري حتى الآن، ليس أكثر من إرهاصات ثورة، لكنّ الثورة الحقيقية والقادمة لا محالة، هي ثورة الجياع التي ستخرج فيها المدينة عن بكرة أبيها، ولن يبقى فقير أو محتاج أو متضرّر من هذا الوضع إلا وسيخرج، لأن الشارع هو مأوى من لا مأوى لديهم، وستقتلع هذه الثورة الجميع، ولن تبقي ولا تذر وعندها لن ينفع ندم أو تحذير أو بيانات أو شعارات.