منذ فترة ليست بقصيرة، أصبحت صباحات المهجر ثقيلة.
فمن غربتي (القسرية)، أستغل فراغ دقائق الصباح الأولى لألقي نظرة على أخبار بلد يتبدد حلم العودة إليه مع كل عنوان.
نعم، ثقيل هذا الصباح الذي بات يرفض القدوم دون أن يحمل معه اسماء عرفتها عن قرب أضيفت على لائحة ضحايا هذا الفيروس الذي يفتك بنا منذ حوالي السنة ونيّف.
وما زاد ثقله أخبار مدينة أحببتها منذ صغري دون أن أعرف: هي طرابلس الجريجة الثائرة على جوعها.
لطرابلس في ذاكرتي، كما في ذاكرة أبناء القرى الجبلية في شمال لبنان، مكانة خاصة. فـ”مشوار طرابلس” كان يعني الكثير لطفولتنا البسيطة البريئة من كل ما وصل إليه مجتمعنا من تشاوف وكبرياء.
مشوار طرابلس “الجائعة” اليوم كان يمثّل بالنسبة لي كل شيء إلا الجوع. مشوار طرابلس يعني “تياب وألعاب جديدة”. يعني وجبة عند “الدنون” أو صحن حمص مع رغيف خبز سخن من عند “أبو سعيد” ولمن يحب السمك، من أفضل من “أبو فادي”؟ والتحلية طبعاً صحن “مشكّل” من عند الحلاب ولأنو “شوب” وتعبنا من “البرم” لا بد من “قرن بوظة من عند “اشئش”. وإذا لم يتسنّ لك المرور على “قهوة فهيم” عالتل فيمكنك أن تأخذ “شفّة” قهوة عالماشي من عند “أبو مشهور” عند مغادرتك المدينة.
رائحة طرابلس ترافقنا في طريق العودة مع “الكعكات” التي كانت أمي تشتريها من أحد الأفران (لا أذكر اسمه) في شارع مار مارون. ذلك الشارع الذي لا يمكنني الحديث عنه دون أن أذكر حادثة مضحكة مبكية لا تغيب عن بالي منذ الطفولة. فشارع “مار مارون” كان مرادفاً لأحد أكبر مراكز الاستخبارات السورية في البلاد حيث كانت صورة حافظ الأسد الضخمة “ترحّب” بزوار المدينة وأهلها. لم أكن قد تخطيت السادسة أو السابعة من عمري، وما كنت أدري حينها عن وحدة المسار والمصير فخطر ببالي ببراءة الأطفال أن أسأل أمي وبكل ثقة: “هل هناك صور أيضاً ل”الياس الهراوي” (الله يرحمه) في سوريا؟” فما كان من الوالدة إلا أن نهرتني لأسكت خوفاً من أن يسمعني أحد و”ما يبقى مين يخبّر”.
النهار الطرابلسي الطويل مليء بالإثارة. فبعيداً عن “مار مارون”، كان للتسوق في عاصمة الشمال لذة خاصة. إذ مهما كان سعر السلعة منخفضاً تبقى “المكاسرة” جزء من القصة التي تنتهي دائماً والكل “مبسوطين”. لا يمكن أن تغادر متجراً في طرابلس وانت زعلان فغالباً ما يناديك التاجر لتعود وتشتري بالسعر الذي كنت قد اقترحته في الأساس: “تكرم عينك مدام ما بدي زعلك بس هاي ما بتصير لغيرك”.
الأسعار في طرابلس منخفضة، و”المكاسرة” مربحة ليس لأن الطرابلسي يهرّب البضائع ويتهرب من دفع الرسوم الجمركية بل لأن الطرابلسي كريم. يريد أن يعيش وأن يترك الآخرين يعيشون أيضاً. فيكتفي بالربح القليل ليربح قلوب الناس.
أهل طرابلس كرماء. ولكن وكما في أي معادلة، لا يمكن التعميم فهناك طبعاً استثناءات. وقد شاء القدر أن تصبح هذه الاستثناءات متزعمة على مدينة لا يمتون لهويتها الأصيلة بصلة. هذه الاستثناءات لا تستحق أن نورد أسماءها عند ذكر أهل طرابلس “الأوادم والطيبين”.
وربما لأنهم ليسوا سوى استثناءات، أصبح هؤلاء من أغنى الأغنياء ينامون على ملياراتهم وطائراتهم الخاصة فيما أهل طرابلس جوعانين!